العب مع السبّاع حتى لو أكلتك ، تلك موعظة رددتها أمهات حرات جعن ولم يأكلن بأثدائهن في زمن كان المرء فيه يذكر جيدا من قتل أباه أو من اختطف أخاه.. لكن الزمن تبدل ، وصارت موعظة الأمهات للأبناء أن يبوسوا الكلب من فمه ويبلل لعابه شواربهم حتى ينالوا حاجتهم منه ، والابن الذي لا يمشي بمحاذاة الجدار لأن له آذانا تصغي وتشي هو ابن عاق ، لا يعرف مصلحته أو مصلحة والديه..
ونادرة الآن هن الأمهات من أمثال عائشة الحوراء التي عيّرت ابنها المخلوع من غرناطة ببكائه كالنساء على ملك أضاعه ولم يحافظ عليه كالرجال ، واذا كانت الحاجة كما يقال هي أم الاختراع فليس المقصود بهذا الاختراع الحيلة أو تقمص الحرباء والببغاء طلبا للنجاة بأي ثمن ، فحاجة الانسان الى التحليق عاليا وهو محروم من الجناحين دفعته الى أن يغامر بحياته ويجرب كي يطير بأجنحة أخرى ، لهذا دفع ابن فرناس حياته ثمنا لحلمه ، واضطر الرسام ليوناردو دافنشي الى ان يشتري الطيور السجينة في أقفاص بما لديه من مال قليل كي يعتقها ويراها تعود الى الفضاء.
الحاجة الى اضاءة الليل في غياب الشمس دفعت الانسان الى اكتشاف الكهرباء فاستطاع أن يطرد الليل واللصوص من ليل البشر ، لكن بعض الناس يفهمون الحاجة بمعناها الأدنى والوحيد وهو الاضطرار الى النفاق والممالأة وتقبيل الكلب من فمه ، وقد لا يعرف بعض الناس أن مفهوم الحاجة هو مسألة فلسفية معقدة كتب عنها وحولها الكثير ، خصوصا اذا اتسعت دلالاتها لتشمل أشواق الانسان الى ما لا يمتلك ، وبالتالي يحاول اخضاع العالم لارادته كي يصبح هذا الكوكب جديرا بالاقامة.
والتهرب من اللعب مع السبّاع لا بد أن ينتهي الى اللعب مع الفئران أو الارانب فيظن اللاعب المسكين نفسه بطلا لأنه انتصر على ذبابة ، وما يقوله فلاسفة التاريخ والحضارات ومنهم وايتهد هو ان ربيع الأمم يشهد اندفاعا نحو المغامرة بعكس خريفها الذي يحول الحياة الى مستنقع كبير ، بحيث تسود التنبلة والقطعنة ويصبح الاختلاف سببا لشقاء المختلف ونحن العرب لنا أسلاف لعبوا مع السبّاع كلها ، في مختلف شجون الحياة ، وركبوا الصعب فهانت عليهم الوصول ، لكن المقارنات تصبح أحيانا ضربا من تعذيب الذات خصوصا اذا كان البون شاسعا وكارثيا بين الجد والحفيد وربيع المغامرة وخريف الهجوع ، ولا بد ان قرونا من العسف والضيم والاحباط أفرزت ثقافة التأقلم من أجل البقاء ، لكنه بقاء على قيد الحياة وليس على قيد الحرية والكرامة الآدمية والكبرياء الوطني..
ومن أوصوا أبناءهم باللعب مع السبّاع لا بد أنهم عرفوها عن كثب وعرفوا أنها ترسم الحدود الاقليمية للعرين على طريقتها التي تحميها حتى الموت من أن تشم رائحة الضباع.
العب مع السبّع حتى لو أكلك ولا تلعب مع الخروف حتى لو أكلته حتى النخاع،